روائع مختارة | قطوف إيمانية | الرقائق (قوت القلوب) | البنــات الخمس!!!

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > الرقائق (قوت القلوب) > البنــات الخمس!!!


  البنــات الخمس!!!
     عدد مرات المشاهدة: 2686        عدد مرات الإرسال: 0

كانت أشعة الشمس الذهبية ترسل أولى خيوطها الجميلة في ذلك اليوم الصيفي اللطيف.. كانت الخيوط الذهبية تتناثر على أشجار المانجو والليمون المحيطة بشرفتهم الصغيرة، كنت واقفة أنا الأخرى في شرفتي أردد أذكار الصباح وأنا أتابع ضوء الشمس وهو يظهر في الأفق وتلك الأشجار وقد أرسلت عطرًا فواحًا نقيًا..

كانت الطيور هي الأخرى تقفز مغتبطة بذلك الصباح الجميل بعيدا عن ضجيج المدينة وصخبها.. كانت هذه هي المرة الاولى التي أتعرف عليهن فلقد شاهدتهن من الشرفة المفتوحة يرتبن غرفتهن بإبداع كانت السعادة بادية على الوجوه وكان التناغم يسود العمل..هذه تكنس الأرضية وهذه تلمع الأثاث وهذه ترتب الألعاب وتلك تحمل الصغيرة حتى لا تعطل العمل كنت أشعر أنهن أصغر فريق عمل ينافس خلية النحل..الكبرى في حدود أربعة عشر عاما بينما تجاوزت الصغرى السنتين بقليل.

أخذت أتابع حركاتهن الرشيقة الدءوبة والتي إنتهت بوضع منضدة صغيرة داخل الشرفة وقد زينّها بمفرش رقيق ووضعوا عليها مزهرية وأحاطوا المنضدة بكراسيهم الصغيرة وما لبثت أن أحضرت الكبري بعض العصائر.

كانت الفتيات جالسات كصديقات في الصف يتحدثن بهدوء والإبتسامة تعلو الوجوه.. كنت ألمحهن بين الحين والآخر وهن يضعن لمسات جمالية في حجرتهم النظيفة المرتبة، وكنت أقول في نفسي: كم أتمنى أن تصبح طفلتي مثلهن فتاة عذبة باسمة مرتبة تحب الجمال..عرفت بعد ذلك أنهن من أوائل المدرسة والحقيقة أنني كنت متوقعة ذلك فقد كانت تبدو عليهن مظاهر الجد والاجتهاد.

بمرور الأيام إعتدت كلما فتحت الشرفة أن أشير لهن فيبادلنني التحية، كنّ يشبهن تلك الطيور الملونة التي تتقافز فوق الشجرة المطلة على شرفتهم.. حتى حدث ما حدث.

فوجئنا في عصر أحد الأيام بصراخ هستيري ينطلق من البيت المقابل لنا.. كان الأب الذي ترك عمله في مجال السياحة وأقام مشروعا ريفيا في المنزل يصرخ ويشتم ويسب ويلعن، لم أكن أستطيع سماع شيء من صوته الغاضب، بالكاد أدركت أنه يسب زوجته بألفاظ فاحشة بذيئة وسمعت في ظلال صوته الهادر أصوات البنات يبكين بألم وحزن وقهر..

لم يتدخل أحد من الجيران فسمعة هذا الرجل لم تكن حسنة أبدا، وهو لايقبل نصحًا من أحد، ومعروف أنه سليط اللسان لذلك فلم يجرؤ أحد من الاقتراب من منزله.

كنت مذهولة من هول ما يصلني من ألفاظ، وكنت غارقة في تساؤلاتي:

كيف لهذا الأب أن يكون له مثل تلك الفتيات الرقيقات؟

عرفت بعد ذلك أن الأم تركت المنزل ورحلت وأن الفتيات جرين خلفها دون أن يحملن معهن ولو ثوبا واحدا إضافيا.

تركهن بلا نفقة مراهنًا أن بيت جدهم لأمهم لن يتحمل خمس بنات خاصة وأن الأم لا تعمل ولادخل ثابت لديها.

فجأة أصبح هذا البيت الهاديء الذي تلفه الأشجار الباسقة محط حديث أهل البلدة ما بين وساطات للحل أو ضجيج مشاحنات، وأصبح ما جرى فيه مثار الأقاويل وأصبحت الحياة الخاصة فيه معلومة على الملأ.

أصر الأب على إسترداد البنات الخمس ولو عنوة بالقوة، فذهب لمدارسهن وإصطحب معه بعض إخوته حتى يحصل على البنات اللاتي أصابهن ذعر شديد من طريقته لإستردادهن، وتوسط المعلمون فالبنات صغيرات ولازلن في حضانة الأم على أي حال، وهن بحاجة لتهيئة نفسية حتى يَعدْن دون أمهن التي أصرت على عدم العودة بعد ما حدث.

في هذه المرة تركهن الأب في إنتظار جولة أخرى، ولكن الفتيات المذعورات رفضن الذهاب مرة أخرى للمدرسة حتى لا يتكرر ماحدث مرة أخرى.

ضغط الأب لإسترداد بناته الخمس بما فيهن الصغيرة ذات العامين وكان جد البنات قد ضاق بهن ذرعا، فوجودهن يذكره بوالدهن الذي أوسع ابنته ضربا وسبًّا فضغط هو الآخر على ابنته التي لا تملك سكنًا للحضانة ولا نفقة حتى أعادتهن جميعا لوالدهن.

كنت أقف كل يوم في الشرفة حتى ألمحهن ولكن الشرفة موصدة دائما تعلوها الأتربة.

لمحت إحداهن ذات يوم تشترى شيئا كانت ترتدي ثوبا متسخا وشعرها شعث حتى كدت لا أعرفها.

وفي أيام العيد رأيت إحداهن تحمل الصغيرة فداعبتها لم تنظر ولم تبتسم وقالت أختها إنها تريد ماما.

قلت لها اذهبي بها إلى هناك بعض الوقت فمنزل الأم في نفس البلدة على بعد شارعين.

ولكن الفتاة نظرت لي بعينين يملؤهما الحزن والأسى، وقالت: جيران منزل الأم على صلة وثيقة ببابا وسيخبرونه، ووقتها لن يرحمنا وأطرقت برأسها.

ساد الصمت الثقيل بيننا وأنا أتذكر تلك المرات المتعددة التي سمعنا فيها صراخ الفتيات وإستغاثتهن وقتها كان الأب يضربهن بعصا رفيعة حادة تلهب أجسادهن الصغيرة وقد رفض أن يفتح الباب لأي إنسان حاول أن ينجدهن.

لازلت أذكر إحدى هذه المرات فيقشعر جسدي.. كان الليل قد إنتصف وقد نامت الفتيات جميعا وقتها قدم زائر للأب يعلمه أن محاولاته لعودة الأم قد باءت بالفشل فلم يجد ذلك الأب وسيلة يفرغ بها مشاعر الغضب التي إنتابته إلا أن يلتقط عصاه الرفيعة تلك وينهال بها على أجساد الصغيرات النائمات اللاتي إستيقظن على وقع السياط فجرين في كل مكان ويومها فتحت الشرفة المتربة وأطللن يطلبن الإستغاثة.

الكاتب: فاطمة عبد الرءوف.

المصدر: موقع رسالة المرأة.